محمد تركي الدعفيس
“إننا أمام سرطان قد يقتل كرة القدم”..
عبارة أطلقها رئيس لجنة الحُكام في الاتحاد الدولي لكرة القدم، الإيطالي بيرلويجي كولينا، لتدين الاعتداءات التي يتعرض لها حكام كرة القدم، ولتقرع جرس الإنذار في عالم اللعبة الأكثر شعبية عالميا، والتي تمارس من ملاعب الحفاة والأزقة والشوارع حتى أرقى درجات الاحتراف حيث الاستادات التي صارت تحفا معمارية وعلامات بارزة.
في السعودية، ينفعل حارس مرمى نادي الجبلين، مارسيلو كارني، فيدفع حكم المباراة ممدوح آل شهدان ويسقطه أرضا في مباراة فريقه ضد “العدالة” (فبراير 2025).
وفي تركيا يوجه رئيس نادي “أنقرة غوجو” فاروق قوجة عدة لكمات إلى وجه الحكم الدولي خليل أوموت ملر عقب مباراة أنقرة غوجو وريزة سبور بالدوري المحلي (ديسمبر 2023)، ويسقطه أرضا ليكمل معتدون آخرون ركل الحكم بأقدامهم بعد سقوطه.
وبعيدا نحو السلفادور، فقد الحكم خوسيه أرنولدو أمايا حياته متأثرًا بضربات قوية تلقاها من اللاعبين والمشجعين في أرضية ملعب تولوكا (يوينو 2022)، بعد إشهاره بطاقة حمراء لأحد اللاعبين.
وليس بعيدا عنها، وفي البرازيل تحديدا، فقد الحكم رودريجو كريفيلا الوعي بعدما ضربه اللاعب ويليام ريبيرو وأسقطه أرضا خلال مباراة فريقى سبورت كلوب ساو باولو، وجوارانى آر إس (أكتوبر 2021)، ثم أكمل عليه بركلة قوية على الرأس بعد سقوطه.
وفي مصر، تعرض الحكم نادر قمر الدولة لاعتداء بالضرب من عضو إدارة نادي الإسماعيلي لاحتسابه ركلة جزاء لفريق طلائع الجيش ضد الإسماعيلي (يناير 2025).
وفي العراق، احتاج جرح في رأس الحكم المساعد الدولي العراقي حسين فلاح إلى 11 غرزة بعد تلقيه حجراً كبيراً في رأسه من قبل أحد المتفرجين قبل نهاية مباراة فريق كربلاء مع ضيفه فريق دهوك (يناير 2025).
ولا يقف الأمر عند حدود ما يسمى “العالم الثالث”، فحتى حين نوغل نحو كرة القمة في أوروبا، فإننا نصعق بحوادث مماثلة، فقد وجه مدرب ليون الفرنسي، البرتغالي باولو فونسيكا ما يمكن تسميته بـ”نطحة زيدان ملطفة ومخففة” لحكم مباراة فريقه أمام بريست (2 مارس 2025) في الدوري الفرنسي باستيان ميو، وذلك بعد طرده في اللحظات الأخيرة من الوقت بدل الضائع، حيث سارع نحو الحكم، وحصل احتكاك بسيط بينهما بالرأس، مع مواصلة فونسيكا توجيه الإهانات للحكم.
وفي إنجلترا، حيث أحد أقوى الدوريات في العالم، قرع الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم جرس الإنذار معتبرا أن سلوك مدرب أرسنال ميكيل أرتيتا، ومهاجم مانشستر سيتي، النرويجي إرلينغ هالاند، خلال احتجاجهما الكلامي على قرارات حُكام الدوري الإنجليزي الممتاز، ينذر بالتحول إلى معركة حقيقية قد تفضي إلى تعرض أحد حُكام “البريميرليج” إلى ضرب مبرح.
وفي الدوري الأوروبي لكرة القدم، وعقب النهائي بين روما وأشبيلية (31 مايو 2023) تعرض الحكم أنتوني تايلور، إلى إساءات واعتداءات من جماهير غاضبة في مطار بودابست حيث حوصر وعائلته من جماهير هتفت ضده، كما تعرض لانتقادات من مدرب روما حينذاك البرتغالي جوزيه مورينيو.
ترهيب نفسي
إلى جانب الاعتداءات، والترهيب الجسدي، تُمارس ضد حكام كرة القدم كثير من أساليب الترهيب النفسي، فمن التهديدات بالقتل والاعتداء، مرورا بالانتقادات العلنية، وانتهاء بالضغوط والاتهامات بالفساد والرشاوى وغيرها تتنوع صور هذا الترهيب الذي يضع حكام اللعبة تحت ضغط هائل.
ففي فرنسا، أطلق رئيس نادي مرسيليا بابلو لونجوريا تصريحات غاضبة وتحدت عن «الفساد» بعد هزيمة فريقه أمام أوكسير بثلاثية نظيفة (فبراير 2023)، فتعرض لعقوبة الإيقاف 15 مباراة، كما تعرض حكم المباراة جيريمي ستينات، وبعد ساعات قليلة من نهاية اللقاء، لاقتحام منزله وتعرضت سيارته لبعض الأضرار من قبل جماهير مرسيليا الغاضبة.
وفي إنجلترا اُستهدف الحكم مايكل أوليفر بتهديدات بالقتل لعائلته بعد مباراة فاز فيها ارسنال على وولفرهامبتون في الدوري الإنجليزي الممتاز (يناير 2025)، وذلك لطرده مدافع آرسنال مايلز لويس سكيلي.
وفي تركيا فُرض الإيقاف والغرامة على مدرب فنر بخشة، البرتغالي جوزيه مورينيو لتعليقاته المسيئة ضد الحكام الأتراك، وذلك عقب تعادل فريقه سلبا مع غلطة سراي في الدوري التركي (فبراير 2025)، حيث أشاد مورينيو بأداء حكم المباراة السلوفيني سلافكو فينسيتش، لكنه عندما رأى الحكم الرابع للمباراة – وهو حكم تركي – قال له: «لو كنت أنت الحكم لكان الأمر كارثيا».
وفي إسبانيا، تعرض الحكم خوسيه مونويرا مونتيرو للتشهير بعدما أظهر البطاقة الحمراء للإنجليزي جود بلينغهام لاعب وسط ريال مدريد، فقد تلقى الحكم على حسابه على موقع «إنستغرام» إهانات وتهديدات بالقتل عقب مباراة ريال مدريد مع أوساسونا (فبراير 2025).
طفح الكيل
هذا المرور الخاطف، يؤكد أن خارطة الاعتداءات على حكام كرة القدم لا ترتبط بمساحة جغرافية محددة، ولا بمستوى اللعبة، ولا بكونها تمارس في عالم الهواية أو دنيا الاحتراف، بل هي ظاهرة عامة، خصوصا إذا ما سحبنا الأمر بعيدا عن مباريات الأضواء واتجهنا أكثر نحو دوريات الدرجات الثانية والثالثة والرابعة، أو غصنا عميقا نحو دوريات الشباب والصغار والأرياف، وفيها تصبح المسألة شديدة الخطورة خصوصا حين لا يشارك فيها اللاعبون وحسب، بل وحتى أولياء أمورهم على حد تأكيد كولينا الذي قال: “هذه الآفة لا تؤثر فقط في كرة القدم على مستوى النخبة، بل إن المعضلة أعمق من ذلك بكثير، فهناك كثير من الحوادث لا تحظى بما يكفي من اهتمام إعلامي، وأخص بالذكر تلك التي تطال حُكاماً في منافسات الهواة والبراعم، علماً أن معظم هؤلاء الحُكام مازالوا في ريعان الشباب، إذ يواجه معظمهم اعتداءات لفظية أو حتى جسدية، كما يتعرضون لسوء المعاملة لفظياً وجسدياً. واللافت أن من يسيئون معاملتهم هم في أغلب الأحيان آباء الأولاد والبنات الذين يخوضون المباراة، وهذا أمر غير مقبول بتاتاً. لقد طفح الكيل”.
ما هي المبررات؟
مع اتساع خارطة الاعتداءات، فإنه يصعب ربطها بالأوضاع الاقتصادية، إذ تشكل العوامل الاقتصادية ضغوطا يتم التنفيس عنها بممارسة حالة من العنف ضد الآخر.
والأوضاع الاقتصادية هنا لا تخص الفريق أو النادي وحدهما، وإن كانت تلعب أدوارا مؤثرة في قدرة النادي على تحقيق استقطابات مهمة على صعيد اللاعبين وحتى الجهاز الفني، وهي تخص كذلك الجمهور، فتواضع القدرة الاقتصادية يثقل كاهل الأفراد الذين يجدون في كرة القدم تنفيسا عن ضيقهم، وحين تلحق الخسارة بفريقهم فإن خيبة الأمل لديهم تكون مضاعفة، وهنا تكون ردة الفعل عنيفة، وتتمثل بالاعتداء والعنف ضد الحكم.
وإلى جانب عامل الأوضاع الاقتصادية، فإن ثمة عوامل أخرى بعضها ذو منشأ نفسي كأن يكون الاعتداء نوع من التنفيس عن حالة الانهزام، وغالبا ما يكون الحكام شماعات تلقى على كاهلها الاتهامات بالتحيز والخطأ والاستفزاز لتبرير الهزيمة والخسارة.
الردع بالعقوبات
حتى اليوم، ما زالت اتحادات كرة القدم، الدولي والقارية والمحلية تتعامل مع ظاهرة الاعتداء على الحكام جسديا ونفسيا بسلاح وحيد هو العقوبات فقط، ووصل الأمر ببعضها إلى حد تغليظ هذه العقوبة وجعلها حاسمة وصارمة مثل عقوبة الإيقاف مدى الحياة، والإيقاف محدد المدة أو عدد من المباريات، والغرامات الكبيرة، وغيرها.
ولا يرى الخبراء أي حل أمام لجان الحكام والانضباط سوى هذه القوانين الصارمة التي يعتقدون أنها تساعد في حماية قضاة الملاعب من ردود الفعل العنيفة التي يواجهونها قبل وأثناء وبعد المباريات.
كان العميد فاروق بوظو، رئيس لجنة الحكام العرب وآسيا، وعضو اللجنة التشريعية في الفيفا سابقا يؤكد دائما أن “الحكام هم الحلقة الأضعف في اللعبة، ولذلك تجدر حمايتهم”، ولعل هذا المنطق ما يزال سائدا حتى اليوم، حيث تسود فكرة “من أمن العقوبة أساء الأدب” وأن هذا الانفلات غير محدد الجغرافيا ولا مستوى التنافس في اللعبة هو نتاج عدم الخشية من العقوبات.
ولعل كثيرا من الإجراءات التقنية التي أدخلت على اللعبة، مثل الكرة الذكية، وتقنية الفار، وغيرها، ترمي بدورها حتى ولو جاءت تحت شعار “مزيد من العدالة وتقليص الخطأ البشري إلى أدنى الحدود” لم يكن لها هم سوى إضفاء مزيد من الحماية على الحكام عبر تأكيد صواب قراراتهم أو مساعدتهم في اتخاذها.
ومن الخطأ تصور أن حماية الحكام هي مسؤولية اتحادات الكرة ولجان الحكام والانضباط، فالجميع معني بهذا الأمر، ولعل هذا ما أشار إليه مدرب برشلونة هانسي فليك قائلا: “من المهم للغاية أن يكون لدينا حكام، وما يحدث مع الحكام أمر لا يصدق. يتعين علينا أن نفكر في عائلاتهم أيضاً. الجميع يرتكبون الأخطاء، وأعتقد أن مسؤولية حماية هؤلاء تقع على عاتق المدربين واللاعبين أيضاً”.
وهو يضيف “الآن لدينا تقنية حكم الفيديو المساعد، وعلينا أن نثق فيها. يتعين على الاتحادات الكروية إظهار مدى قوتها. هذا مهم للغاية. يتعين علينا تغيير هذه الأشياء قليلاً لأن الحكام بشر”.