السياسة والرياضة: حدود مشفرة

 

دبي – عمار الدمني 

 

لطالما كانت العلاقة بين السياسة والرياضة موضوعًا مثيرًا للجدل والنقاش، فقد تأثرت الرياضة بالقرارات السياسية بشكل ملحوظ على مر العصور، وذلك في العديد من السياقات المختلفة. فمن المقاطعات الرياضية إلى الرقابة على البث التلفزيوني، تتحول الرياضة من مجرد وسيلة ترفيهية إلى ساحة صراع سياسي، حيث يمكن أن تؤثر القرارات السياسية على ما يمكن للجمهور مشاهدته، وكيفية تغطيته. وهذا يبرز أكثر في حالات خاصة، مثل المقاطعات العربية لإحدى أهم مباريات كأس العالم 1982 أو الرقابة في كوريا الشمالية التي تحد من عرض مباريات كرة القدم، وخاصة تلك التي يتواجد فيها لاعبين من كوريا الجنوبية.

 

حروب البث والمقاطعة

في تاريخ الرياضة الحديثة، كان لتأثير السياسة على البث الرياضي دور بارز في العديد من الأحداث الهامة. في الخامس من تموز/ يوليو 1982، كان عشاق كرة القدم في العالم العربي ينتظرون بشغف متابعة مباراة نارية بين منتخب البرازيل ومنتخب إيطاليا في كأس العالم التي أقيمت في إسبانيا. لكن المفاجأة كانت في أن بعض القنوات العربية رفضت بث المباراة بسبب تعيين الحكم الصهيوني أبراهام كلاين لإدارتها، وذلك في إطار التزامها بمقاطعة الكيان الصهيوني. هذا القرار لم يكن استثناءً في ذلك الوقت، فقد استمرت الدول العربية في تبني سياسات مشابهة لمقاطعة بعض المباريات، سواء في الأولمبياد أو غيرها من الفعاليات الرياضية التي يشارك فيها ممثلون عن الكيان الصهيوني. وفي هذا السياق، كانت القنوات العربية تتجنب عرض مراسم افتتاح الأولمبياد في حضور وفود الكيان، وتحرص على تحرير لقطات من مباريات يُحتمل أن تثير مشاعر الجمهور العربي.

لكن تأثير السياسة على البث الرياضي لم يكن مقتصرًا على المنطقة العربية فحسب، بل امتد إلى بقاع أخرى من العالم. أحد أبرز الأمثلة الحديثة التي تجسد هذا التأثير كان في كوريا الشمالية، حيث منع كيم جونغ أون بث مباريات نادي توتنهام هوتسبير الإنجليزي في بلاده بسبب وجود النجم الكوري الجنوبي سون هيونغ-مين ضمن صفوف الفريق. كانت هذه الخطوة جزءًا من رقابة صارمة على ما يُعرض للجمهور في كوريا الشمالية، حيث تُبث مباريات الدوري الإنجليزي في كوريا الشمالية بتأخير يصل إلى أربعة أشهر، مع تعديل مدة المباراة بحيث تُعرض في 60 دقيقة فقط، قبل نشرات الأخبار الرسمية.

 

ظاهرة تتجاوز الحدود

 

قرار كوريا الشمالية بمنع بث مباريات توتنهام لم يكن حالة فريدة من نوعها، بل كان جزءًا من ظاهرة عالمية تعكس كيف يمكن للحكومات السيطرة على ما يشاهده جمهورها من خلال البث الرياضي. في إيران، على سبيل المثال، يُمنع بث المباريات التي تُشارك فيها فرق أو حكام إسرائيليون، وتُفرض قيود على اللاعبين الإيرانيين الذين قد يواجهون فرقًا إسرائيلية في البطولات الدولية. وبالمثل، في الصين، تم حجب بعض المباريات، مثل مباريات فريق أرسنال في عام 2019، بعد تصريحات مسعود أوزيل التي انتقد فيها سياسة الصين تجاه أقلية اليغور المسلمة.

توضح هذه القرارات حجم تأثير السياسة على وصول الجماهير إلى ما يحبون من محتوى رياضي، حتى وإن كان السبب غير مباشر، فتصريحات أوزيل أو وجود لاعبين كوريين في الملعب لا رسالة مباشرة فيها ضد أي كيان.

وإن أردنا الابتعاد عن الشرق، ففي غرب العالم أيضاً سنجد أمثلة مشابهة، ففي إسبانيا، شهدت الأزمة السياسية بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كتالونيا محاولات لمنع بث المباريات الخاصة بالفرق الكتالونية مثل برشلونة وإسبانيول، وأما التلفزيونات الأوكرانية فقد قاطعت أي حدث يظهر فيه لاعبون روس، كما مُنعت التلفزيونات الروسية من الحصول على حقوق البث للبطولات الأوروبية بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

 

حظر الأسماء: عندما يصبح الرياضي غير موجود!

الرقابة الرياضية لم تقتصر فقط على المباريات، بل امتدت أحيانًا إلى أسماء اللاعبين أنفسهم. في ليبيا، خلال حكم معمر القذافي، كانت هناك فترات مُنع فيها ذكر أسماء لاعبي كرة القدم أو أي نجم على شاشات التلفزيون الرسمي، حيث كان يُشار إليهم بأرقامهم فقط بدلاً من أسمائهم، وذلك في إطار سياسة إعلامية صارمة تهدف إلى تقليل التركيز على الأفراد وتعزيز فكرة “الجماعة”، فيما عرف لاحقاً بوحدة محاربة النجومية. هذا النوع من الرقابة يُعيد إلى الأذهان كيف يمكن للسياسة أن تفرض نفسها حتى على أكثر التفاصيل البسيطة في الرياضة.

 

جماهير الرياضة: من السخرية إلى الغضب

من جهة أخرى، تلقى القرارات السياسية التي تقيد البث الرياضي ردود أفعال متباينة بين الجماهير. فقرار كوريا الشمالية بمنع بث مباريات توتنهام، على سبيل المثال، كان موضوعًا للسخرية على منصات التواصل الاجتماعي. البعض علّق قائلاً إن هذه القيود قد تكون “نعمة” للجماهير الكورية الشمالية، في ضوء الأداء المتذبذب للفريق هذا الموسم. في حين اعتبر آخرون أن هذا القرار يمثل امتدادًا للرقابة الصارمة التي تفرضها بيونغ يانغ على كل جوانب الحياة اليومية لمواطنيها.

 

 

ترامب والجولف: الرياضة كساحة سياسية

وفي سياق مختلف، ولكن مشابه، أثار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب جدلاً واسعًا عندما تحدث عن بطولات الجولف، وخصوصًا فيما يتعلق بدوري “LIV Golf” المدعوم من قبل صندوق الاستثمارات السعودي. ترامب لم يخفِ دعمه لهذا الدوري الجديد الذي واجه انتقادات بسبب مصادر تمويله، بل وظهر في العديد من البطولات المقامة على ملاعبه الخاصة، مؤكدًا أن هذا الدوري يمثل “مستقبل الجولف”. تعليقاته أثارت جدلاً واسعًا، حيث اعتبرها البعض ترويجًا سياسيًا، بينما رآها آخرون تأكيدًا على أن الرياضة لم تعد بمنأى عن المصالح السياسية والاقتصادية.

 

التحديات المستقبلية

 

مع استمرار تصاعد التوترات السياسية في العديد من أنحاء العالم، من غير المتوقع أن تظل الرياضة بمنأى عن التدخلات الحكومية. فالرياضة لم تعد مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبحت ساحة صراع سياسي تُستخدم فيها العديد من الوسائل لضبط ما يمكن للجماهير مشاهدته. فبعض الحكومات قد تقاطع بطولات معينة، أو تحظر بث مباريات، أو تفرض رقابة شديدة على البث التلفزيوني للحد من التأثيرات السياسية، أو حتى للسيطرة على كيفية تقديم الألعاب الرياضية.

لكن في الوقت ذاته، لا يبدو أن الشغف بالرياضة سيتوقف بسبب هذه القيود، فالمشجعون يجدون دائمًا طرقًا بديلة لمتابعة فرقهم المفضلة. من خلال البث غير الرسمي أو عبر الإنترنت، يستمر الناس في متابعة فرقهم التي يحبونها. هذا الأمر يطرح سؤالًا مهمًا: إلى متى ستستمر هذه القيود؟ وهل سيستطيع عالم الرياضة أن يستعيد استقلاليته بعيدًا عن التدخلات السياسية والتوترات بين الدول؟

عن admin1

شاهد أيضاً

الملحق القاري للتصفيات الآسيوية في الدوحة والرياض

القرعة في 17 يوليو والمواجهات تنطلق في الثامن من أكتوبر       متابعة – …